مقهى الفيشاوي.. سحر لا يزول


مصر الناس

كتبت: إسراء محارب وسمر محمد وصابرين عبد الجليل (نتاج ورشة تدريبية)

ما إن تطأ قدمك منطقة مسجد الحسين، في وسط القاهرة، حتى تأخذك رائحة البخور العتيقة والشاي الأخضر والأصوات المتداخلة بين أدعية وابتهالات ونداءات الباعة الجائلين.

وإذا مددتَ الخطو قليلا، يسار المسجد، ثم انحرفتَ في الزقاق المجاور، ستجد نفسك أمام الفيشاوي، أحد أشهر المقاهي في القاهرة.

المقهى مزدحم أغلب الوقت، ويقصده السياح والمصريون، للتمتع بالأجواء الساحرة والشاي بالنعناع والشيشة -باختلاف نكهاتها- والعناب والرمان والكركديه، ويمتد في الزقاق الخارجي بحيطانه التي تتجاور فيها رسوم وزخارف من العصر الفاطمي والعثماني ومراياه العتيقة،  وداخله توجد 3 غرف، تسمى القافية والتحفة والبوسفور، تفصل بينها أقواس، ومشربيات أرابيسك مطعّمة بالأبانوس.

أول الغيث.. "بوفيه" صغير

بدأ مقهى "الفيشاوي" ببوفيه صغير، أنشأه الحاج "فهمي علي الفيشاوي" عام 1797 في قلب خان الخليلي –الحي التاريخي وبازار الصناعات اليدوية- ليجلس فيه الزبائن من المصريين والسياح، ومع الوقت نجح في توسعته، وتحويله إلى مقهى كبير، ذي ثلاث حجرات.

أولى غرف المقهى، "البوسفور"، وهي مبطنة بالخشب المطعّم بالأبنوس ومليئة بالتحف والكتب، تحتوي على أوانٍ من الفضة والكريستال، كان الملك فاروق -آخر ملوك أسرة محمد علي- يجلس فيها، بصحبة كبار ضيوف مصر العرب والأجانب.

الغرفة الثانية، "التحفة"، مُزينة بالخشب المزركش، وبها كنب مكسو بالسجاد العربي، ومبطن بالجلد، وهي المفضلة للفنانين والعازفين.

وأخيرًا غرفة "القافية"، التي تحيي عادة قديمة، كادت تندثر،  بالجلوس كل خميس، وإلقاء الأبيات الشعرية، فيردّ الجالسون ببيت ينتهي بالقافية نفسها.

وحكى أكرم مصطفى الفيشاوي -من الجيل السابع لعائلة الفيشاوي- أن من أشهر رواد المقهى، جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ورؤساء الدول العربية، والدبلوماسيون والعلماء، والفنانون القدماء والمحدثون.

وبتعاقب الزمن، تغيّر نوع رواد المقهى، ودوره، من إقامة الحلقات الثقافية والتنافس الأدبي، فأصبحتْ ترتاده فئات أخرى، تستمتع بالجلوس بين أرجائه، ولعب الطاولة والدومينو، والاستماع إلى عزف العود والغناء.

أرض الإبداع

يوم الخميس من كل شهر، حتى أوائل القرن العشرين، اعتادت صالة القافية استقبال جمهور كبير، يتجمع في حلقات، مع ترك مساحة خالية من المناضد وسطها، لعقد مباراة يخوضها شخص ممثلا عن أحد الأحياء، يتميز بخفة الظل وسرعة البديهة والبلاغة، والفائز من يستطيع مواصلة السجال في كل ما يخص الشعر والأدب الساخر، للنهاية.

المقهى، رغم ازدحامه، يوفّر بيئة خصبة للإبداع، ويمثّل عامل إلهام لروّاده، الذين كان بعضهم من الأدباء والشعراء يكتب عليه أعماله، مثل نجيب محفوظ الذي ألّف بعض فصول ثلاثيته الشهيرة  بين جنباته، وأحمد رامي الذي شهدت ميلاد بعض قصائده.

يمرّ الزمن، ومقهى الفيشاوي قابع في مكانه، شاهدًا على ماض عريق، متخوّفا من مستقبل غامض، لقلّة من يقصدونه من السيّاح، بسبب الأحداث السياسية المضطربة.

يقول الفيشاوي الصغير: "المقهى أثر لا تقلّ قيمته عن الأهرام، ويحمل بين جوانبه أسرار رواده الراحلين من عباقرة الفن والأدب".

ثم ابتسم قائلا: "كنا قرّبنا نفقد الأمل، لكن بدأت تندّع اليومين دول".


الكاتب

مصر الناس> مصر الناس

شارك برأيك